الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مقدمة ابن الصلاح المسمى بـ «معرفة أنواع علوم الحديث» **
*4* حكي عن قوم من المتقدمين ومن بعدهم: أنهم جوزوا إطلاق (حدثنا وأخبرنا) في الرواية بالمناولة، حكي ذلك عن الزهري ومالك، وغيرهما، وهو لائق بمذهب جميع من سبقت الحكاية عنهم: أنهم جعلوا عرض المناولة المقرونة بالإجازة سماعاً. وحكي أيضاً عن قوم مثل ذلك في الرواية بالإجازة. وكان (الحافظ أبو نعيم الأصبهاني) - صاحب التصانيف الكثيرة في علم الحديث - يطلق (أخبرنا) فيما يرويه بالإجازة. روينا عنه أنه قال: أنا إذا قلت (حدثنا) فهو سماعي، وإذا قلت (أخبرنا) على الإطلاق فهو إجازة من غير أن أذكر فيه (إجازة، أو كتابة، أو كتب إلي. أو أذن لي في الرواية عنه). (97) وكان (أبو عبيد الله المرزباني الأخباري) - صاحب التصانيف في علم الخبر - يروي أكثر ما في كتبه إجازة من غير سماع، ويقول في الإجازة (أخبرنا) ولا يبينها، وكان ذلك - فيما حكاه الخطيب - مما عيب به. والصحيح - والمختار الذي عليه عمل الجمهور، وإياه اختار أهل التحري والورع - المنع في ذلك من إطلاق (حدثنا وأخبرنا) ونحوهما من العبارات، وتخصيص ذلك بعبارة تشعر به، بأن يقيد هذه العبارات فيقول: (أخبرنا، أو: حدثنا فلان مناولة وإجازة، أو: أخبرنا إجازة، أو: أخبرنا مناولة، أو: أخبرنا إذناً، أو: في إذنه، أو: فيما أذن لي فيه، أو: فيما أطلق لي روايته عنه). أو يقول: (أجاز لي فلان، أو: أجازني فلان كذا وكذا، أو: ناولني فلان) وما أشبه ذلك من العبارات. وخصص قوم الإجازة بعبارات لم يسلموا فيها من التدليس، أو طرف منه، كعبارة من يقول في الإجازة (أخبرنا مشافهة) إذا كان قد شافهه بالإجازة لفظاً، كعبارة من يقول (أخبرنا فلان كتابة، أو: فيما كتب إلي، أو: في كتابه) إذا كان قد أجازه بخطه. فهذا - وإن تعارفه في ذلك طائفة من المحدثين المتأخرين - فلا يخلو عن طرف من التدليس، لما فيه من الاشتراك والاشتباه بما إذا كتب إليه ذلك الحديث بعينه. وورد عن (الأوزاعي) أنه خصص الإجازة بقوله (خبرّنا) بالتشديد، والقراءة عليه بقوله (أخبرنا). واصطلح قوم من المتأخرين على إطلاق (أنبأنا) في الإجازة، وهو الوليد ابن بكر صاحب (الوجازة في الإجازة). وقد كان (أنبأنا) عند القوم - فيما تقدم - بمنزلة أخبرنا، وإلى هذا نحا (الحافظ المتقن أبو بكر البيهقي) إذ كان يقول (أنبأني فلان إجازة)، وفيه أيضاً رعاية لاصطلاح المتأخرين، والله أعلم. (89) وروينا عن الحاكم (أبي عبد الله الحافظ) رحمه الله أنه قال: الذي أختاره وعهدت عليه أكثر مشايخي وأئمة عصري: أن يقول فيما عرض على المحدث فأجاز له روايته شفاهاً (أنبأني فلان) وفيما كتب إليه المحدث من مدينة، ولم يشافهه بالإجازة (كتب إلي فلان). وروينا عن (أبي عمرو بن أبي جعفر بن حمدان النيسابوري) قال: سمعت أبي يقول: كل ما قال البخاري (قال لي فلان) فهو عرض ومناولة. قلت: وورد عن قوم من الرواة التعبير عن الإجازة بقول (أخبرنا فلان أن فلاناً حدثه، أو: أخبره). وبلغنا ذلك عن الإمام (أبي سليمان الخطابي) أنه اختاره أو حكاه، وهذا اصطلاح بعيد عن الإشعار بالإجازة، وهو فيما إذا سمع منه الإسناد فحسب وأجاز له ما رواه قريب، فإن كلمة (أن) في قوله (أخبرني فلان أن فلاناً أخبره) فيها إشعار بوجود أصل الإخبار وإن أجمل المخبر به ولم يذكره تفصيلاً. قلت: وكثيراً ما يعبر الرواة المتأخرون عن الإجازة الواقعة في رواية من فوق الشيخ المسمع بكلمة (عن) فيقول أحدهم إذا سمع على شيخ بإجازته عن شيخه (قرأت على فلان عن فلان) وذلك قريب فيما إذا كان قد سمع منه بإجازته عن شيخه، إن لم يكن سماعاً فإنه شاك، وحرف (عن) مشترك بين السماع والإجازة صادق عليهما، والله أعلم. ثم اعلم: أن المنع من إطلاق (حدثنا وأخبرنا) في الإجازة لا يزول بإباحة المجيز لذلك، كما اعتاده قوم من المشايخ من قولهم في إجازتهم لمن يجيزون له، إن شاء قال (حدثنا) وإن شاء قال (أخبرنا) فليعلم ذلك والعلم عند الله تبارك وتعالى. *3* وهي أن يكتب الشيخ إلى الطالب وهو غائب شيئاً من حديثه بخطه، أو يكتب له ذلك وهو حاضر. ويلتحق بذلك ما إذا أمر غيره بأن يكتب له ذلك عنه إليه. وهذا القسم ينقسم أيضاً إلى نوعين: (99) أما الأول: وهو ما إذا اقتصر على المكاتبة: فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين والمتأخرين، منهم (أيوب السختياني)، و(منصور)، و(الليث بن سعد)، وقاله غير واحد من الشافعيين، وجعلها (أبو المظفر السمعاني) منهم أقوى من الإجازة، وإليه صار غير واحد من الأصوليين. وأبى ذلك قوم آخرون. وإليه صار من الشافعيين (القاضي الماوردي) وقطع به في كتابه (الحاوي). والمذهب الأول هو الصحيح المشهور بين أهل الحديث. وكثيراً ما يوجد في مسانيدهم ومصنفاتهم قولهم (كتب إلي فلان قال: حدثنا فلان) والمراد به هذا. وذلك معمول به عندهم، معدود في المسند الموصول. وفيها إشعار قوي بمعنى الإجازة، فهي وإن لم تقترن بالإجازة لفظاً فقد تضمنت الإجازة معنىً. ثم يكفي في ذلك أن يعرف المكتوب إليه خط الكاتب، وإن لم تقم البينة عليه. ومن الناس من قال: الخط يشبه الخط فلا يجوز الاعتماد على ذلك. وهذا غير مرضي، لأن ذلك نادر، والظاهر: أن خط الإنسان لا يشتبه بغيره، ولا يقع فيه التباس. ثم ذهب غير واحد من علماء المحدثين وأكابرهم، منهم (الليث بن سعد) و(منصور): إلى جواز إطلاق (حدثنا وأخبرنا) في الرواية بالمكاتبة. والمختار: قول من يقول فيها (كتب إلي فلان قال: حدثنا فلان بكذا وكذا) وهذا هو الصحيح اللائق بمذاهب أهل التحري والنزاهة. وهكذا لو قال (أخبرني به مكاتبةً أو كتابةً) ونحو ذلك من العبارات. أما المكاتبة المقرونة بلفظ الإجازة: فهي في الصحة والقوة شبيهة بالمناولة المقرونة بالإجازة، والله أعلم. *3* بأن هذا الحديث أو هذا الكتاب سماعه من فلان، أو روايته. مقتصراً على ذلك، من غير أن يقول (اروه عني، أو: أذنت لك في روايته) ونحو ذلك. فهذا عند كثيرين طريق مجوز لرواية ذلك عنه ونقله. حكي ذلك عن (ابن جريج)، وطوائف من المحدثين والفقهاء والأصليين والظاهريين، وبه قطع (أبو نصر بن الصباغ) من الشافعيين، واختاره ونصره (أبوالعباس الوليد بن بكر الغمري المالكي) في كتاب (الوجازة في تجويز الإجازة). وحكى (القاضي أبو محمد بن خلاد الرامهرمزي) صاحب كتاب (الفاصل بين الراوي والواعي) عن بعض أهل الظاهر: أنه ذهب إلى ذلك واحتج له. وزاد فقال: لو قال له (هذه روايتي، لكن لا تروها عني) كان له أن يرويها عنه، كما لو سمع منه حديثاً ثم قال له (لا تروه عني ولا أجيزه لك) لم يضره ذلك. ووجه مذهب هؤلاء اعتبار ذلك بالقراءة على الشيخ، فإنه إذا قرأ عليه شيئاً من حديثه، وأقر بأنه روايته عن فلان بن فلان، جاز له أن يرويه عنه، وإن لم يسمعه من لفظه، ولم يقل له (اروه عني، أو: أذنت لك في روايته عني)، والله أعلم. والمختار: ما ذكر عن غير واحد من المحدثين وغيرهم من: أنه لا تجوز الرواية بذلك. وبه قطع الشيخ (أبو حامد الطوسي) من الشافعيين، ولم يذكر غير ذلك. وهذا لأنه قد يكون ذلك مسموعه وروايته، ثم لا يأذن له في روايته عنه، لكونه لا يجوز روايته لخلل يعرفه فيه، ولم يوجد منه التلفظ به، ولا ما يتنزل منزلة تلفظه به، وهو تلفظ القارئ عليه وهو يسمع ويقر به حتى يكون قول الراوي عنه السامع ذلك (حدثنا وأخبرنا) صدقاً، وإن لم يأذن له فيه. وإنما هذا كالشاهد، إذا ذكر في غير مجلس الحكم شهادته بشيء فليس لمن سمعه أن يشهد على شهادته، إذا لم يأذن له ولم يشهده على شهادته. وذلك مما تساوت فيه الشهادة والرواية، لأن المعنى يجمع بينهما في ذلك، وإن افترقا في غيره. ثم إنه يجب عليه العمل بما ذكره له إذا صح إسناده، وإن لم تجز له روايته عنه، لأن ذلك يكفي فيه صحته في نفسه، والله أعلم. *3* أن يوصي الراوي بكتاب يرويه عند موته أو سفره لشخص. فروي عن بعض السلف رضي الله تعالى عنهم: أنه جوز بذلك رواية الموصى له لذلك عن الموصي الراوي. وهذا بعيد جداً، وهو إما زلة عالم، أو متأول على أنه أراد الرواية على سبيل الوجادة التي يأتي شرحها، إن شاء الله تعالى. وقد احتج بعضهم لذلك فشبهه بقسم الإعلام وقسم المناولة، ولا يصح ذلك، فإن لقول من جوز الرواية بمجرد الإعلام والمناولة مستنداً ذكرناه، لا يتقرر مثله، ولا قريب منه ههنا، والله أعلم. وهي مصدر ل وجد يجد، مولد غير مسموع من العرب. روينا عن (المعافى بن زكريا النهرواني) العلامة في العلوم: أن المولدين فرعوا قولهم (وجادة) فيما أخذ من العلم من صحيفة من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة، من تفريق العرب بين مصادر (وجد) للتمييز بين المعاني المختلفة، يعني قولهم (وجد ضالته وُجدناً، ومطلوبه وجوداً) وفي الغضب (موجدة) وفي الغنى (وُجداً) وفي الحب (وَجداً). مثال الوجادة: أن يقف على كتاب شخص فيه أحاديث يرويها بخطه ولم يلقه، أو: لقيه ولكن لم يسمع منه ذلك الذي وجده بخطه، ولا له منه إجازة ولا نحوها. فله أن يقول (وجدت بخط فلان، أو: قرأت بخط فلان، أو: في كتاب فلان بخطه: أخبرنا فلان بن فلان) ويذكر شيخه، ويسوق سائر الإسناد والمتن. أو: يقول (وجدت، أو: قرأت بخط فلان عن فلان) ويذكر الذي حدثه ومن فوقه. هذا الذي استمر عليه العمل قديماً وحديثاً، وهو من باب المنقطع والمرسل، غير أنه أخذ شوباً من الاتصال بقوله (وجدت بخط فلان). (102) وربما دلّس بعضهم فذكر الذي وجد خطه وقال فيه (عن فلان، أو: قال فلان) وذلك تدليس قبيح، إذا كان بحيث يوهم سماعه منه، على ما سبق في نوع التدليس. وجازف بعضهم فأطلق فيه (حدثنا وأخبرنا) وانتقد ذلك على فاعله. وإذا وجد حديثاً في تأليف شخص وليس بخطه فله أن يقول (ذكر فلان، أو: قال فلان: أخبرنا فلان، أو: ذكر فلان عن فلان). وهذا منقطع لم يأخذ شوباً من الاتصال. وهذا كله إذا وثق بأنه خط المذكور أو كتابه، فإن لم يكن كذلك فليقل (بلغني عن فلان، أو: وجدت عن فلان) أو: نحو ذلك من العبارات. أو ليفصح بالمستند فيه، بأن يقول ما قاله بعض من تقدم (قرأت في كتاب فلان بخطه، وأخبرني فلان أنه بخطه) أو يقول (وجدت في كتاب ظننت أنه بخط فلان، أو: في كتاب ذكر كاتبه أنه فلان بن فلان، أو في كتاب قيل إنه بخط فلان). وإذا أراد أن ينقل من كتاب منسوب إلى مصنف فلا يقل (قال فلان كذا وكذا) إلا إذا وثق بصحة النسخة، بأن قابلها هو أو ثقة غيره بأصول متعددة، كما نبهنا عليه في آخر النوع الأول. وإذا لم يوجد ذلك ونحوه فليقل (بلغني عن فلان أنه ذكر كذا وكذا، أو: وجدت في نسخة من الكتاب الفلاني) وما أشبه هذا من العبارات. وقد يتسامح أكثر الناس في هذه الأزمان بإطلاق اللفظ الجازم في ذلك من غير تحر وتثبت، فيطالع أحدهم كتاباً منسوباً إلى مصنف معين، وينقل منه عنه من غير أن يثق بصحة النسخة، قائلاً (قال فلان كذا وكذا، أو: ذكر فلان كذا وكذا). والصواب ما قدمناه: فإن كان المطالع عالماً فطناً، بحيث لا يخفى عليه في الغالب مواضع الإسقاط والسقط، وما أحيل عن جهته إلى غيرها، رجونا أن يجوز له إطلاق اللفظ الجازم فيما يحكيه من ذلك. وإلى هذا - فيما احسب - استروح (103) كثير من المصنفين فيما نقلوه من كتب الناس، والعلم عند الله تعالى. هذا كله كلام في كيفية النقل بطريق الوجادة. وأما جواز العمل اعتماداً على ما يوثق به منها: فقد روينا عن بعض المالكية: أن معظم المحدثين والفقهاء من المالكيين وغيرهم لا يرون العمل بذلك. وحكي عن الشافعي وطائفة من نظّار أصحابه جواز العمل به. قلت: قطع بعض المحققين من أصحابه في أصول الفقه بوجوب العمل به عند حصول الثقة به. وقال: لو عرض ما ذكرناه على جملة المحدثين لأبوه. وما قطع به هو الذي لا يتجه غيره في الأعصار المتأخرة، فإنه لو توقف العمل فيها على الرواية لانسدَّ باب العمل بالمنقول، لتعذر شرط الرواية فيها، على ما تقدم في النوع الأول، والله أعلم.
|